الهوية.. صراع التمثّلات وإدارة الاختلاف

من التخلّف والبدائية أن تتحول في كلّ مرة، مناسبة أو عيد من الأعياد، إلى نقاش وصراع حول الهويّة والانتماء في القرن الواحد والعشرين. لهذا وجدتُ نفسي أعيد ترتيب الدروب والمسارب التي ينبغي للفكر المتيقّظ سلوكها حين يجد نفسه أمام اللّغط وفوضى الخطابات المتهافتة يوميا، خاصّة في مثل هذه المناسبات.
إسما
عيل مهنانة
ربّما تكون المشكلة الأساسية في كون الانسان المعاصر، إنسان التكنولوجيا الجديدة، صار تفكيره رهين المناسباتية ورزنامة الأعياد التي تقرّها السياسة لكي تبرمج انشغالاته العميقة وتستبدلها بالجدل والنقاش.
أولا: ثمّة اختلاف سرّي بين “الهوّية” وبين “الخطاب حول الهوية” لا تنتبه له الأغلبية اليوم، فالهوية شعور حميمي شخصي وفردي يشبه الإيمان والحبّ والإحساس المتّصل يوميا، الإحساس بـ “طبيعة الأنا” ولأن “الأنا” من وجهة نظر البيولوجيا مجرّد وهم نافع، وهم وظيفي بالحرّية والفردية، فإن “خطاب الهوية” المذكور أعلاه يجد سهولة بالغة في الاستيلاء عليه ومصادرته لحساب تأويلاته السياسية. أمّا “خطاب الهويّة” فهو تموقع واستراتيجية مدروسة، وخبيثة في معظم الأحيان لأن كلّ ما يهمّها هو توظيف ذلك اللاشعور العفوي بالهوية لأغراض سياسية وإيديولوجية.
الهوية التي يتكلّم عنها “الخطاب السياسي” هويّة مُخترعة بالتعريف. فهي هويّة تستند إلى بحوث المؤرّخين المأجورين من السلطة، كما أنها هوية انتقائية، تختار في كلّ مرحلة العناصر الهوياتية التي تخدم تلك المرحلة، وفي مرحلة أخرى قد تتخلّى عنها لصالح عناصر أخرى
ثانيّا: إذا كانت الهويّة تشكٌّلاً تاريخيا عفويّا مفتوحا، وقادر على التصالح يوميا مع أي عنصر ثقافي جديد، كاللغة والدّين والجنس، فإن “الخطاب حول الهوية” ينزع دوما نحو غلق اللعبة، واختزال الإمكانات، وتكليس الهوية في محددات ثابتة (الثوابت الوطنية)، نزوع نحو الامتثال لجوهر ميتافيزيقي لا يسري عليه التاريخ، مثل القول إننا “أنا أمازيغي عرّبني الإسلام” أو القول إن “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب” أو “القول” أن عناصر الهوية هي “العروبة” والإسلام” والأمازيغية”.. أو غيرها من المقولات الجاهزة والمُصادرة لإرادة الفرد في أن يكون نفسه فقط، وأن يختار أو لا يختار من هذه العناصر ما يشاء. كلّ هذه التوصيفات عبارة عن وصفات فوقية تمتهن لغة الخشب حتى تمرر مشروعا سياسيا مخترعا على وجه المستقبل، وتشكيل “هويّة موجّهة” سياسيا.
الدّين لا يمكن أن يكون عنصرا هوويا، لأن الدّين معتقد شخصي يُفترض أن يكون اختيارا شخصّيا وفرديّا، عكس الهوية التي نرثها أب عن جد، لكنّ غيّاب الحرّية الفردية في مجتمعات ما قبل الحداثة جعلت الدّين مُكوّنا هوويا
ثالثا: الهوية التي يتكلّم عنها “الخطاب السياسي” هويّة مُخترعة بالتعريف. فهي هويّة تستند إلى بحوث المؤرّخين المأجورين من السلطة، كما أنها هوية انتقائية، تختار في كلّ مرحلة العناصر الهوياتية التي تخدم تلك المرحلة، وفي مرحلة أخرى قد تتخلّى عنها لصالح عناصر أخرى، وهذا ما حدث لدوّل العالم الثالث كلّها عشية الاستقلال، حين اختارت عناصر هووية على حساب أخرى، ثمّ وجدت نفسها في مستنقع المطالب الأقلوية، الذي قد يؤدّي إلى حروب أهلية، لقد فهمت هذه الدوّل متأخرة أنه لا هوية حقيقة بدون ديمقراطية حقيقة، الديمقراطية وحدها تستطيع حلّ مشكلات المطالب الهووية والأقلوية حلا نهائيا. إن ما يتم تداوله حاليا حول الهوية ليس إلا تمثّلات ، وتمثلات مضادة، لا تقوم على أية حقيقة تاريخية، فالخطاب المعاصر حول الهوية يتمّ بناءه على بعض الوقائع التاريخية التي قد تكون حقيقة وقد تكون مجرّد سرديات متخيّلة لا سند أركيولوجي لها. لهذا فإن الصراع الحالي حول الهوية هو صراع تمثّلات وليس صراع وقائع.
رابعا: عادة ما يُطرح السؤال الأساسي: هل تقوم الهوية على اللغة أم على الدّين أم على الأرض؟
والجواب هو أن الدّين لا يمكن أن يكون عنصرا هوويا، لأن الدّين معتقد شخصي يُفترض أن يكون اختيارا شخصّيا وفرديّا، عكس الهوية التي نرثها أب عن جد، لكنّ غيّاب الحرّية الفردية في مجتمعات ما قبل الحداثة جعلت الدّين مُكوّنا هوويا، أمّا اللغة فهي أيضا طارئة وعارضة في التّاريخ، فالأمريكي مثلا يتكلّم الإنجليزية لكنه ليس إنجليزيا، وكذلك الكَندي الذي يتكلّم الفرنسية ، والبرازيلي الذي يتكلّم البرتغالية، والمكسيكي والأرجنتيني الذي يتكلّم الإسبانية، لكنه لا يقبل الهوية الاسبانية، ونفس الشي ينسحب على الجزائري أو المغربي الذي يتكلّم العربية. ولهذا، إذا كانت هناك هوّية جماعية لم يتبقّى لها، على ساحة الوعي والتفكير، إلا الانتماء إلى الأرض والجغرافيا، وهذه بدورها ليس ثابتا في عصر الهجرات، فالمهاجر والمنفيّ مثلا يستطيع بسهولة التخلّص من الحنين إلى الأرض لكي يكون مواطنا كونيّا وعالميا. لم يبق لخطاب الهوية في عصرنا أي أساس، لأن عصرنا، هو عصر الفردية والحرية بامتيّاز.
خامسا: في عصرنا لم تعد الهوية الجماعية تؤدّي أي وظيفة حقيقية فيما يخص الحقوق والحرّيات، لهذا صارت الهوية فردية بامتياز. كلّ فرد صار يتدبّر ذاته بطريقة واعية تساءل ما ورثه من الجماعة وتنتقي منه ما يتناسب مع خياراتها الدينية واللغوية والجغرافية والجنسية. لقد تغلّب صوتُ الحرّية على صوت الانتماء، كلّ فرد هو حالة خاصّة يصعب مصادرة خياراتها دون قمع سياسي وحقوقيّ. لهذا أيضا لم يعد الانتماء إلى الحداثة إلا تدبير الذّات داخل هذه الاختيارات، ولم يعد للسياسة والقانون من شرعية إلا بما تحققه من عدالة في إدارة الاختلاف.. إن إدارة الاختلاف هي أصعب مهمّة سياسية في عصرنا.