آراء وتحاليل/ “الأُلوهية” الشعبية ….

التطورات التي تعرفها المجتمعات والدول عبر التاريخ يتّم ربطها عادة بالتغييرات التي تحدث في بنيتها الاجتماعية أوالسياسية أوالفكرية أوالاقتصادية أو بكل هذه العوامل مجتمعة، فيتم تقسيم هذه التغييرات الى مراحل أو عصور، فنتحدث مثلا ًعن العصور الوسطى أو عصر النهضة أو العصر الحديثة , أو عن المجتمعات ما قبل و ما بعد الثورة الصناعية على سبيل المثال .
يختلف تصنيف هذه المراحل حسب العلم الذي نبحث فيه، هذا ما يحدث عادة في المجتمعات التي تحكمها قوانين الكون والمنطق والعلوم و التي تدفعها عادة نحو الأمام عبر تراكمات وتسلسل كل هذه المراحل التي تحدثنا عنها ،و لكن يبدو أن هذه القوانين الطبيعية لا تنطبق على مجتمعاتنا “المؤمنة ” !
ما يحدث في عملية و مراحل “تطوّر” مجتمعاتنا يختلف تماما عن ما ذكرناه سابقا ، و لا يمكن لعاقل أن يفهمها أو يقدر على تفسيرها، فلا علاقة لها لا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالتاريخ أو العلوم , خاصة في الأربعين سنة الأخيرة ، فهي أشبه بحالة من الجنون والهلوسة الجماعية الشعبية. تحكمها قوانين سريالية وميتافيزيقية عبثية ، بدأت ملامحها مع ثمانينات القرن الماضي وهي تزداد حدّة و تعقيدا وخطورة مع مرور الزمن، بدأت مع ما يمكن تسميته بمرحلة هوس ” الفتوى الشعبية ” التي تحوّلت الى الرياضة الشعبية الأولى التي تنافس كرة القدم في مجتمعاتنا ، والتي صار الجميع يمارسها أو يبحث عنها، الجميع يفتي أو يتحدث عن الفتوى الفلانية الأخيرة للشيخ فلان و الجميع يتسابق لمعرفة آخر “الاصدارات” في هذا المجال ليناقشها و يصدر فتواه فيها، بإمكانك مثلا أن تسمع فتوى من أحدهم وأنت تنتظر دورك في البريد او البلدية أو موقف الحافلات أو في عرس أو في مأتم , و سيعطيك رأيا شرعيا في طريقة وقوفك أو كيف تمضغ الكعكة , أو حتى في الملعب حيث بإمكان أحد المناصرين أن يتطوّع لك بفتوى حول الفريق الخصم بعد أن يفرغ ما في جعبته من كل أنواع السب والشتائم و لبذاءة تجعل ابليس شخصيا يصاب بالصدمة ،او من عند بائع السردين أوالخضر الذي سيستغل الفرصة ليهديك فتوى “على الطاير” لوجه الله ، بعد أن يفرغ جيبك بجشعه !
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقط ، فبعد مرحلة “الفتوى الشعبية ” يبدو أن ملامح مرحلة جديدة قد بدأت تظهر , فقد دخلنا مرحلة ” الألوهية الشعبية ” و يمكن ملاحظة هذه الظاهرة بسهولة في المواقع و الشبكات الاجتماعية بعد اعلان وفاة شخصية اعلامية أو سياسية أو فنية وطنية أو عالمية ، حيث صار الجميع يتقمص دور الاله و يقررون من سيدخل الجنة ومن الذي سيكون مصيره جهنّم و هي أعلى علامات الشرك في الدين الذي يدعون الانتماء و الدفاع عنه ، حالة “الألوهية الشعبية ” صارت تسمح للبعض أن يطّلعوا على الغيب وعلى ما في القلوب أيضا و يقرروا في مكان الله ، ان كان الشخص المتوفي مؤمنا أو كافرا أو منافقا، فتجد بعضهم “رحيما” و يقرر ان المتوفي سيتعرض لعذاب بسيط فقط و سيتم ادخالها الجنة ، و هناك من هم أكثر حزما فيقررون أن مصيره جهنم و لا مجال للرحمة ، و قد تحدث بعض النقاشات الساخنة بين مختلف “الآلهة ” الشعبية حول القرار الصائب للوصول الى حل وسط بين الجنة و النار .
نوع آخر من أعضاء فرقة “الألوهية الشعبية ” تجدهم متواجدين عادة في الشبكات و متخصصين في مراقبة كل من يترحم على أحد المتوفين ليذكروهم بأنه “كافر” لا مجال للترحم عليه لأنهم قرروا أنه سيدخل جهنم ، و أن كل من سيترحمون عليه سيكون مصيرهم مثله و لن تُقبل توبتهم من آلهة الشبكات ! .
بعد مرحلة ” الفتوى الشعبية” و مرحلة ” الألوهية الشعبية ” ، لا أحد بإمكانه أن يتنبأ بنوع المرحلة القادمة , نتمناها فقط أن تكون أقل ألوهية و جنونا !
بقلم : نايت الصغير عبد الرزاق